نوري ڤانة: أوّلا، كيف تعرّف بنفسك؟
حسين الواد: من مواليد منتصف القرن العشرين بالمكنين (جهة الساحل الشرقي) لأسرة تدهورت أوضاعها في عهد الاستعمار الفرنسي. تعلقت بأبي قضية مع "الجندرمة" الفرنسية سرعان ما تطوّرت إلى حكم بالإعدام ففرار من المعتقل لتستقر على المؤبد. عرفت، باكراً جداً، أن فساد أصحاب النفوذ لا دين أو عرق أو حدود له، فرئيس مركز الحرس مثلاً، وهو فرنسي، كان يطالب، من بين ما يطالب به، بكبش العيد مقابل غض الطرف عن ملاحقة والدي طوال مطاردته ثم، عند اعتقاله ثانية، مقابل التدخل لتسريحه. خسرت الأسرة في الأثناء معظم ممتلكاتها الفلاحية. وعندما جاء الاستقلال وسرّح أبي وجد نفسه خارج المستفيدين منه.
أحمل اسمين: أحدهما تسمّيتُ به منذ ولدت إلى السنة التي وصلت فيها إلى التقدم للحصول على شهادة ختم الدراسة الابتدائية والثاني، وهو الذي أحمله اليوم في بطاقة التعريف ( الهوية)، أسنِدَ إليّ لما بلغت 10 أو 11 أو 12 سنة. القصة أن قريباً لنا معلماً أخذني إلى المدرسة. بعد خمس سنوات استخرجت لي شهادة ميلاد لاجتياز اختبارات الحصول على شهادة ختم الدراسة الابتدائية فاكتشفت إدارة المدرسة أن سنّي لا يقبل أن أكون في ذلك المستوى، فحسب تلك الشهادة يجب أن أكون وقتها في السنة الأولى من التعليم الابتدائي أو الثانية. اجتمع أبي ومدير المدرسة وأحد المعلمين بضابط الحالة المدنية واتفقوا لتصحيح الوضع على: - أن صاحب الاسم الذي عرفت به قد مات. – أن له أخا يكبره بـ 6 سنوات غفلت أسرته عن تسجيله بدفاتر الحالة المدنية فتم تدارك ذلك وأعطوه اسماً آخر. وشهدوا بذلك. واستخرجوا شهادة ميلاد حتى يتسنى لي الترشح لشهادة ختم الدراسة الابتدائية. لهذا ولدت ( ثانية) في يوم مبارك هو 20 مارس (يوم الاستقلال وبه تحتفل بلادنا كل عام). لم أحصل على شهادة ختم التعليم الابتدائي ذلك العام. ولا أستبعد أن أكون قد غفلت عن رسم الاسم الرسمي على بعض الاختبارات، فكثيراً ما كان يختلط عليّ الاسمان. استنتجت ذلك من استغراب بعض المعلمين الذين درست عليهم من فشلي.
أعتبر نفسي محظوظاً بالتعليم الذي تلقيت على يدي معلمين وأساتذة كانوا على درجة عالية من الوطنية والكفاءة والإخلاص. لم تكن لدينا، إلى نهاية التعليم الثانوي، فكرة واضحة عن المستقبل الذي يعدّنا له النجاح فأساتذتنا كانوا يتولون توجيهنا إلى الشعب العلمية والأدبية والتقنية. الإنجاز الأكبر الذي أقدمت عليه الدول المستقلة هو تعميم التعليم لكنها سرعان ما ندمت عليه.
في بداية شهر جوان من سنة 67 سمعنا، وكنا بصدد اجتياز اختبارات امتحان الباكالوريا، أن الحكومة التونسية ترسل مدداً من الجيش التونسي لنصرة الجيوش العربية المهزومة فزيّن لنا حماس الشباب الخروج من قاعة الامتحان لتشجيع جنودنا البواسل. لم تمر سوى كوكبة صغيرة من العسكر في شاحنات رثة كانت متجهة براً إلى الجبهة. كان ذلك بعد انتهاء الوقت المخصص للامتحان فكان مصيرنا الفشل في دورة جوان والفصل النهائي من الدراسة في صورة الفشل في دورة أكتوبر ( التدارك). عندما نجحت في دورة أكتوبر وجدت نفسي، في الجامعة التونسية، موجّهاً إلى دراسة العربية وآدابها. وبدأت الرحلة.
نوري ڤانة: عهدي بك لمّا كنت أزاول الدّراسة في تونس تكتب النّقد الأدبي ولك مؤلّفات عديدة في هذا الشّأن. أذكر مثلا أنّ كتاباتك عن المعرّي والمتنبّي كانت تحظى باهتمام كبير من قبل أساتذة وتلاميذ البكالوريا. هل لك أن تقدّم لنا الخطوط العريضة لمشروعك النّقدي؟
حسين الواد: كانت الجامعة التونسية، عندما التحقتُ بها في أكتوبر 1967، حديثة عهد بالتكوين. بعض من رؤساء لجان الامتحانات كانوا من المستشرقين يفدون من جامعة السربون. كان التكوين بقسم العربية بكلية الآداب شديد التأثر بتلك الجامعة الفرنسية العريقة والمتقادمة. لكن وقائع ماي 68 قد بلغتنا وبلغنا معها الحراك الثقافي في العلوم الإنسانية وفي دراسة الأدب. سُحِرنا بالمنهج البنيوي من خلال المطالعة الحرّة لأبرز المؤلفات فيها. كان معظم أساتذتنا قليلي الاطلاع على هذا المنهج بحكم تبحّرهم في منهجية النظر إلى الأدب نظرة تاريخية. نشأ بينهم وبين الطلاب شيء من الجدل سرعان ما تحوّل إلى تراشق بنعوت من قبيل "الرجعية" و"التقدمية".
عند التخرج سنة 1971 أنجزت دراسة تستلهم المنهج الشكلاني للرحلة في رسالة الغفران. كانت معركة المناهج على أشدها فاقترن اسمي بالبنيوية، وكان الاستيحاش منها على أشده ففشلتُ في مناظرة الحصول على شهادة التبريز بعد نجاحي في الاختبارات الكتابية. لم أعد إلى تلك المناظرة فقد استقر في اعتقادي أن فشلي لم يكن لأسباب علمية. وعندما فتِحَت ( تحت الضغط الطلابي) شهادة للبحث تحت تسمية غريبة لا تساوي شيئا كنت من السباقين إلى التسجيل فيها.
أسلمني النقد الإيديولوجي الذي كان يوجّه للبنيوية إلى الاهتمام بالعلاقة "أدب- تاريخ" في دراستي الجامعية الثانية. وقادني البحث في تلك العلاقة إلى التأثر بـ"جمالية التلقي" الألمانية فاستعملت ما فهمته منها في دراستي التي أعددتها للحصول على شهادة دكتوراه الدولة " تلقي القدامى لشعر المتنبي". كان ذلك في سياق نشاط في الساحة الثقافية كنا (مجموعة من الطلاب) نبشر فيه بالمناهج الحديثة في ما عرف آنذاك بـ"حركة الطليعة" (مكننا صاحب إحدى الأسبوعيات من صفحة ثقافية كنا ننشر فيها مقالات نقدية). لكن أبواب النشر في الصحف سرعان ما انسدّت في وجوهنا فلذنا بالجامعة. ألـِّفتْ، في تلك الفترة، بالأقسام الأدبية أعمال كانت رائدة في دراسة نصوص أدبية قديمة وحديثة أكثرها لم يحظ بالنشر.
الأعمال التي نشرتها بعد الفراغ من رسالة دكتوراه الدولة في تلقي شعر المتنبي اتجهت إلى:
- العلاقة بين الشعر والواقع في شعر بشار بن برد. الفكرة الأساس في هذه الدراسة أن الشعراء يشتغلون على الصفات أكثر من الأسماء.
- الاهتمام بـ"اللغة الشعرية في ديوان أبي تمام". والفكرة الأساس في هذا البحث أن الشعراء يحاورون النظام اللغوي الرمزي ويستدركون عليه.
- البحث في الذات أو "الأنا المتكلمة بالشعر". التمستها في شعر الأعشى الكبير ميمون بن قيس وتوصلت إلى أنها ذات تواضعية لا علاقة متينة بها بالذات التاريخية.
- النظر في "المضمون الفكري الذي روّجه نقاد الأدب ودارسوه" في كتاباتهم عن الشعر العباسي وهو موضوع الدراسة التي عنوانها "حرباء النقد".
انطلقت مطبقاً لما فهمته من المناهج الحديثة (من البنيوية إلى التلقي) وانتهيت إلى أن دراسة الأدب تحتاج إلى الانطلاق من خصوصيته الخاصة. وهذه الخصوصية التي تفرده عن الفن (رغم اشتراكه معه في كثير من المقوّمات) وعن الكلام (رغم اشتراكه معه في كثير من المقوّمات) تحتاج الآن، في تقديري، إلى كثير من البحث والدرس. أشعر كأن درسنا للأدب (بأي منهج من المناهج) قد غلب الاهتمام بالمشترك بينه وبين الفن والمشترك بينه وبين الكلام على الاهتمام بما يختص به وينفرد ولا يشترك فيه مع أي نشاط بشري آخر.
هذا المنحى، لعسر السير فيه، لقي حظوظاً جزئية من الرواج، فالدراسات الأدبية، عندنا، مبهورة بالمناهج الحديثة والقديمة تلهث في ركابها وتمعن في التبشير لها.
نوري ڤانة: لماذا انصبّ اهتمامك النّقدي على الأدب القديم عموماً؟
حسين الواد: الدراسات التي نشرتُ تجمع بين التنظير وممارسة النصوص. والأدب العربي القديم شعراً ونثراً يبدو لي مجالاً ثرياً ينطوي على ما يسمح بتنويع التنظير للكائن الأدبي وتعميقه، فخلافاً للمتواتر في بعض الدراسات ولانتشار عبارة "الانفجار التنظيري" أرى أننا لم ننظـّر له بما يكفي للوصول إلى خاصيات "الأدب" الخاصة.
أما الأدب الحديث فيغلب عليه السير في ركاب الأعمال والاتجاهات العالمية، محتذياً لها. لذا كان درسه لا يوفر فرصة للتنظير فاقتصر البحث فيه على التطبيق. ومما يزعج في هذا التطبيق أنه سرعان ما أصبح آلياً لا روح فيه. الأعمال السردية والشعرية العربية الحديثة التي قد يمكـّن درسها من الإسهام في حركة النقد العالمية قليلة جداً وما يمكن أن نخرج به منها ضئيل الإضافة. يبدو هذا الواقع راجعاً، من بين ما يرجع إليه، إلى أن الانبهار بالآداب الأجنبية يغلب على الحركية الذاتية فيه بتناسل الأعمال الإبداعية المحلية بعضها من بعض. أضرب لك مثالاً: الجاحظ وضع "النادرة" مشتقة من "الخبر" والهمذاني وضع "المقامة " متجاوزاً بها "النادرة" و"الخبر" أو مطوّرا لهما، علماً أن كل جنس صغير من هذه الأجناس لا يلغي الآخر. أما في الأدب العربي الحديث فمعظم الأعمال فيها تذكرنا، تذكيراً كبيراً، بأعمال أجنبية فذة وتأتي دونها في الجودة. لا أعرف، في الأدب العربي الحديث، أعمالاً تتولد عن أخرى فيه إلا ما كان من باب التمرينات شبه التلمذية.
المسألة إذن مسألة مواطن اهتمام في وجهات النظر أكثر منها مسألة موقف من الإبداع المعاصر ففيه ما يستحق القراءة لكن بغير العين المهتمة بالتنظير للأدب تنظيراً يهتم بالمقوّمات الخاصة التي تجعل منه أدباً قبل حشره في الفن المعتمد على اللغة مادة أولية.
نوري ڤانة: متى وكيف وجدت نفسك تكتب الأدب عموماً والرّواية خصوصاً؟
حسين الواد: الكتابة عن الأدب عموماً كانت نتيجة من نتائج الاطلاع على المناهج الحديثة في دراسة الغربيين لأدبهم. فقد يسّر لنا، عندما كنا طلاباً، إتقاننا للسان الفرنسي الاطلاع على أعمال أعلام مشهورين من قبيل رولان بارط ولوسيان غولدمان وجورج لوكاتش وفوكو ( كنا نعتبره قريباً منا بحكم تدريسه في الكلية التي ننتمي إليها) وتودوروف... فانبهرنا بها. رغبنا في أن نكون في مستوى ما كانوا يكتبون. لذا كنا نبني على ما توصلوا إليه دون احتفال بنقل نظرياتهم إلى العربية. كنا نقرأ أعمالهم في لغتها الأصلية.
أما الرواية فقد كانت لي فيها، في السنوات 70، عند الاشتغال بـ"الطليعة"، محاولات سردية سرعان ما تركتها للتفرغ لأبحاثي الجامعية.
كيف عدتُ إليها بعد ما لا يقل عن 30 سنة؟ الذي أتذكره أنه أتيح لي، في ربيع سنة 1998 ببيروت، أن أرافق بعض الأصدقاء إلى مسرحية دعانا إليها مخرجها. شدّني في تلك المسرحية، وقد غاب عني الآن اسم المخرج مثلما غاب اسم الفرقة، مشهد يشمشم فيه أحد الممثلين متقمصاً شخصية كلب وهو يقول "ها قد عثرت عليها. روائح تجار الأسلحة. روائحهم لا يخطئها أنف". وبالمناسبة أعتقد أن المسرح من أخطر الأجناس الأدبية. إنه أخطر بكثير من الأفلام. فهو واقع يحافظ على مسافة معلومة بينه وبين الواقع هي المسافة بين الفن والواقع. فالواقع ليس من الفن والفن ليس غريباً عن الواقع. ولا أستبعد أن تكون التضييقات التي تسلطها النظم المستبدة على المسرح راجعة إلى التخوّف منه، فمن تلك المسافة يمرّ الوعي.
من ذلك المشهد صرت أنتبه للروائح. فطنت إلى أي حدّ تأثرت البيئة حولنا بالروائح الخبيثة: روائح مصبات النفايات بمداخل بعض المدن وهي ترسل أدخنتها المؤذية وروائح كثير من المعامل وهي ترسل بالليل خاصة روائح تبعث على الغثيان وروائح بحور وشطآن تلوّثت. حتى التربة تلوّثت وأصبحت تنبعث منها نتونة غريبة. وجدتني أسجل، على ما يتوفر من أوراق، بعض ما كان يخطر على الذهن من كلام. لم تكن لي نية وضع رواية أو كتاب. استغرق ذلك بضعة أعوام.
نوري ڤانة: ذكرت لي الصّائفة الماضية أنّك لم تكتب ”روائح المدينة“ لنشرها؟ كيف كانت علاقتك بالروائح وكيف أصبحت الآن؟ الرّواية لم تنته بعد كما ذكرت؟
حسين الواد: عندما بدأ النص يستوي، وكان ينكتب من خلالي منجّماً، أدركت أنه لا يمكن أن أدفع به للنشر. فالنظم المستبدة المهترئة تفقد صوابها، تصبح كالخنازير الوحشية الجريحة. لم أكن خالي الذهن مما كان يُتناقل في الأوساط المثقفة عن الأذى الذي يعرّض له أنفسهم معظم الذين يعترضون على السلطة أو ينقدونها. فطنتُ، من ناحية ثانية، إلى أني قد وضعت يدي على موضوع به كثير من الطرافة. كنت كلما نظرت فيه أجدني مشدوداً إليه كمن يقرأ عملاً إبداعياً ممتعاً. عندما كانت الرواية على الحاسوب قرأتها مرات كثيرة وراودتني، في بعض الأحيان عند الرغبة في نشرها، تغييرات كانت تخطر على الذهن، لكنني كنت أشعر، بمجرّد أن أهم بها، بأني سأفسدها.
الرواية في صيغتها المنشورة قد انتهت. إنما بقي فصلان لم يظهرا فيها. والبنية العامة التي اخترتها لها مقامة على الانفتاح، وهذا ييسر إدراجهما فيها. غير أنهما قد نميا حتى لم يعودا منسجمين مع الحجم الذي جاء عليه كل فصل، وهذا قد يمثل عاهة شكلية. ثم إن الثاني منهما لم يكن قد اكتمل أو تمّ تبييضه عند ما وجدتني مجبراً على نشر الرواية. كانت النسخة المخطوطة قد تسرّبت وأصبحت تتداول بالتصوير.
ينبغي أن أذكر هنا أن الكاتب الإبداعي ليس حرّاً إزاء ما يكتبه. للعمل الإبداعي سلطة قوية على كاتبه. عندما نشرت الرواية، وقد سهر على ذلك العالم اللساني محمد صلاح الدين الشريف فهو الذي قدّم لها، لم أعد أرغب في النظر فيها. دار بيننا نقاش طويل على البريد الإلكتروني في كل جملة وفقرة وفصل من فصولها. أرهقني بحرصة على ضرورة استبدال لفظة بلفظة أقل حدّة وبضرورة الاستغناء عن بعض الجمل أو الأجزاء من الجمل، وأرهقته بالتمسك بما كان يدعو إلى تحويره أو تغييره. بقي الفصلان على حالهما. قد أنشرهما كما هُمَا بالحفاظ على الهوامش والزيادات والتشطيبات الكثيرة التي في الفصل الثاني. أما صلتي الآن، كاتباً، بهذه الرواية فقد انقطعت منذ سنوات. الراوي الذي وضعها آنذاك، أي عندما كان مسكوناً بها، أشعر كأنه كائن آخر لا أعرف عنه إلا القليل.
نوري ڤانة: لماذا اعتمدت الرّوائح (وحاسّة الشمّ عموماً) لتوليد وتدوين الذاكرة الشعبيّة والوطنيّة؟
حسين الواد: للفظتي "روح" و"رائحة" في العربية جذر واحد. والرائحة شيء لطيف أعني أنها ليست بجسم (هي لا حجم لها ولا شكل) ولكنها ممّا يُدرك بالحس فهي مادية ومما يدوم ويلحقه الزوال فهي كائن من الكائنات، بل هي ملازمة لجميع الكائنات تقريباً، ما من شيء لا رائحة له. ومن أسرار احتفاء العربية بها أن " الذكاء" وهو صفة من صفات العقل، بل اسم من أسمائه، تتصف به الروائح فنحن نقول رائحة ذكية. ويمكن أن نبحر في هذا الاتجاه إلى ما لا نهاية.
بقي أن أذكر أن الكتابة عن الروائح قد دعتني إلى أن أهتم بالحواس الأربع الأخرى: اللمس والسمع والذوق والبصر. حاولت أن أوظف اللمس في "سعادته...السيد الوزير" ويبدو أنني لم أوفق. انفلتت الفكرة الأصل من بين يديّ. لعل اللمس قد بدا لي محدود العمق والذاكرة. بين حدوده المتقابلة، أعني اللذة والألم واليبوسة والليونة، أحاسيس قلما تملأ المسافة التي تفصل أحدها عن الآخر. أما الرائحة فشاملة ومتسعة ومتحركة ومتنوعة وذات أعماق فهي قابلة لأن تكون مداخل للحديث عن التحوّلات. وعندما قرأت رواية "عطر" سيزكند (لم أحظ بالاطلاع عليها قبل كتابة الروائح) ازددت إعجاباً، فضلاً عن إعجابي بالمَعلم الفني الذي وضعه صاحبها، بثراء هذا الموضوع. ولعلك تتذكر أن منطلق رواية بروست "بحثاً عن الزمن المفقود" إنما هي رائحة كعكة " المادلين".
أما الذاكرة الشعبية فهي، كالحياة اليومية، ذلك المجهول الذي نغرق فيه، لتعاليه علينا وشموله لنا، من المهد إلى اللحد. إنها المعطى الذي نتجاهل، فهي لا تثير فينا تساؤلاً، رغم عميق تكييفه للسلوك. مدينة المكنين السّاحليّة تمثّل البطل الرّئيسي للرواية. ماهي علاقتك بهذه المدينة (أستحضر هنا علاقة جيمس جويس بدبلن تلك المدينة "العزيزة والقبيحة" التّي على كرهه لها لطالما تغنّى بقبحها وجمالها في آن).
طيلة السنوات التي استغرقتها كتابة "روائح المدينة" كنت أشعر بالحب المسرف لهذه المدينة وبالغضب لها وأحياناً عليها. قرأت لجويس ولم يبق في وعيي منه شيء كثير. قد يرجع ذلك إلى أني كنت أقرأ له لمجرد المتعة استجلاباً للنوم أو للإفلات من ضغط اليومي والمزعج. غير أن المكنين واسمها لا يرد في الرواية لم تكن سوى الفضاء الذي نُسبت إليه الوقائعُ، وهي في معظمها أحاديث تُروى للتندّر والاستغراب والرفض والتنديد. أما الأحداث وآثارها في الوعي العام فلا صلة لها متينة بها. استلهمت من المدينة طوبوغرافية عامة فقط. بعض الغرائب والنوادر مستقاة من أخبار تنسب إلى مدن وبلدان أخرى خارج تونس نفسها. وهذا ما جعل كثيراً من القراء ببلدان عربية شتى يقولون لي:"كأنك تتحدث عما جرى لمدننا". ومدنهم لا أقدر حتى على إثباتها جغرافياً. جميع مدننا وقرانا "عزيزة وقبيحة". بل إن القبح نفسه فيها جميل. ولكن المناويل المعتمدة في التنمية قد أتت، إضافة إلى التفاوت الذي لا يبرره شيء، إلى مدننا بكثير من المسخ وجلبت لسكانها كثيراً من الأذى. ومن هنا كان الغضب لسكان هذه المدينة الخيالية فقد توالت عليهم المحن وتهاطلت عليه المصائب.
نوري ڤانة: هناك مسحة من الحزن والشجن (تذكّرني هنا باسطمبول أورهان باموك) تكاد تطغى على الرّواية ولكنّي لا أظنّك ممّن يعتقدون أنّ الأدب مأساة أو لا يكون. هل لك أن تعرّفنا بمفهومك للحزن في علاقته بهذه التّجربة الرّوائيّة؟ هل هو أسلوب أم موضوع أم مؤطّر للحكاية أم ماذا؟
حسين الواد: الكتابة الإبداعية، في معظمها، يبعث عليها حنين شجيّ. والحنين تمرّد على النسيان وتشوق إلى جميع ما فيه إفلات من ضراوة الحاضر. الحزن آت من الخوف من النسيان من ناحية ومن شدة الانزعاج من ضراوة الحاضر(قد يكون الحاضر ضاري الضراوة بتفاهته) واستمرار المعاناة فيه.
إذا كنت تشير بالحزن إلى الانزعاج من التهافت الذي لحق بالروائح وسار بها نحو الفساد فهذا قاسم مشترك بين جميع الروائح المستبعدة التي ذكرت في الرواية. إنه إلى إحدى الفنيات السردية المعتمدة أقرب منه إلى دلالات أخرى.
أما إذا كنت تشير إلى "المؤرخ الحزين"، وقد أثارت تسميته كثيراً من الاستغراب ووضعت لها قراءات متعددة، ففي هذه الشخصية، ذات المعالم الأسطورية، ملامح بيّنة مما يصطلح عليه بـ"المثقف". المثقف بمزيج من المفاهيم التي بلورها باندا وغرامشي وإدوارد سعيد خاصة. والمثقف، ببلادنا، يجد نفسه، من اللحظة التي يصبح فيها مثقفاً، من حزن إلى حزن. إذا تكلم أو تحرّك لحقه الأذى وإذا سكت اعتصره حتى يكاد يقتله الكمد. أرى مسحة الحزن في هذه الرواية أقرب إلى المحرّك الذي يدفع بقواها الذاتية على النموّ. بطبيعة الحال هذا بعيد عن الحقل الدلالي الذي ترسمه عبارة "الأدب مأساة أو لا يكون".
نوري ڤانة: أسلوب الرّوائح مميّز، تجتمع فيه جماليّة النّص (السّجع والايقاع) وحدّة النقد الى أبعد حدّ. هل تأثّرت بالمقامة وانصرفت عنها أم ارتأيت تطويرها؟ ما هو موقفك من التّجارب الرّوائيّة الأولى (كالمويلحي في مصر والمسعدي في تونس) التّي أرادت أرضنة فنّ الرّواية (الغربي؟) بالاستناد الى المقامة؟
حسين الواد: لا أخفي أني أحد المندهشين من روعة العبارة التي كتبت بها هذه الرواية. لم أفتعل ذلك أو أقصد إليه وكنت لا أفطن له إلا لاحقاً. حاولت أن أفهم تلك المراوحة بين ما يبدو تأنقاً في الأسلوب وهجوماً على العبارات القريبة من العامية فلم أصل إلا إلى أن الجملة في الكتابة المفهومية (المقال مثلاً) يسبقها وضوح الفكرة في الذهن فنحن نطوّعها لتطابق المفاهيم وتؤديها. أما الجملة في الكتابة الإبداعية فاللفظة كأنها تستدعي ما يليها من ألفاظ. شيء يتكوّن من تلقائه كالطين الذي يُصنعُ منه الفخار، تشكله بين اليدين الحركة واللمسُ. لا أعرف من أين ولا كيف كانت الجمل تتكوّن في وعيي كالغفلة. أحيانا بعد كتابة بعض الجمل تستوقفني بعض الألفاظ فأبحث عنها في المعاجم مثلما يبحث أي قارئ عن ألفاظ تستوقفه في القواميس.
التأثر بالمقامة، وهو الرأي الذي يتمسك به واضع المقدمة، لا أدري ما إذا كان ظاهراً. لكن الأكيد أن التأثر بالشعر العربي القديم موجود بقوة في بناء النص (بنية منفرطة ومنتظمة في آن واحد) نابذة للتدرج الزمني والترابط المنطقي فهي مقارعة لهما. ثم هي تحمل بصمات الثقافة التي أنتمي إليها وأرتاح كثيرا لنصوصها الفذة.
أما تطوير فن المقامة على النحو الذي جربه المويلحي أو حاوله المسعدي، ففهمه على أنه "أرضنة" للرواية " الغربية"؟ يبدو لي طرحاً مغلوطاً لقضية كان النقد الأدبي مشغولاً بها أعني "تاريخية الأشكال الفنية". يطعن الآن في طرحها انهيار مقولة "الشكل والمضمون" ( ثنائية أخرى من الثنائيات الزائفة التي يكثر توهمها) من ناحية مثلما يطعن فيه اكتشاف أن القصّ لم يخلُ منه مجتمع من المجتمعات في أيّة حضارة قديمة أو حديثة من الحضارات. فالإنسان، مثلما قال بارط في ما أذكر، "كائن قصصيّ"، اتخذ من القص شاهداً من ذاته على ذاته في مغامرتها عبر التاريخ. وعلى أية حال فإن "توطين الرواية" لم يكن في وعيي عند تشكل هذه الرواية التي جاءت على امتداد ما لا يقلّ عن ستة أعوام.
كنت قد درّست أعمال المويلحي والمسعدي. والذي أراه أن استعمال أشكال سردية وصيغ روائية كانت متداولة في بعض من فترات التاريخ عمل بالغ الصعوبة. فهو لا يقتصر على إدراج مضامين معاصرة أو جديدة في أشكال معتقة مثلما يبدو أو على تطوير تلك الأشكال القديمة بتطعيمها بتقنيات لا حقة بها، فهذا تبسيط مخل للمسائل. إنه يدخل في ما اعتبرته، في بعض الدراسات، "إبداع الاحتذاء" أعني، وهذه عناصر متشارطة، الاستفادة من عراقة التاريخي وما كان من إلف الأذواق له والارتفاع إلى مقامه في الجودة والإتيان بشي متولد عنه. وهذا يجعل من "إبداع الاحتذاء" أمراً أصعب وأعسر من "إبداع الابتداع". وبهذه الصعوبة أفسر قلة الإقبال على تطوير المقامة وبقاء أكثر ذلك القليل في فشل التقليد.
نوري ڤانة: اعتبر ناقدنا الكبير توفيق بكّار "روائح المدينة" رواية من "طراز عالمي" مع أنّها موغلة في المحليّة المُكنيّة-السّاحليّة أوّلا والتونسيّة ثانياً والعربيّة ثالثاً. هل السرّ في (السّعي إلى) العالميّة هو التجذّر في المحليّة حسب رأيك؟
حسين الواد: ربمّا يدعونا هذا السّؤال الى التعريج على إشكال الهوّية وهويّة الرّواية العربيّة بالذّات في علاقتها بالرّواية الغربيّة. للأستاذ الكبير توفيق بكار قصة مع رواية "روائح المدينة"، فقد أطلعته على مخطوطتها دون أن أذكر له مؤلفها. ما كاد يقرؤها حتى قال "هذا طراز عالمي". وعندما سميتُ له كاتبها بدأنا نفكر في إمكان نشرها. الذي أراه صواباً في الأعمال الإبداعية أنها كلما كانت مسرفة في المحلية اقتربت من العالمية شريطة أن تدرك حظاً من الجودة لا بدّ منه. أعني أن المحلية وراءها التنوّع وأن العالمية مرتبطة بالجودة. والجودة، مثلما تعلم، ليست حصيلة أكثر ما يمكن من المحاسن والمزايا لأنها، في الحقيقة، موقعية، بمعنى أن الفنية السردية تراها رائعة في عمل وتراها هي نفسها قبيحة في عمل آخر. الجودة قيمة زئبقية لا تنحصر (متى تسامحنا مع استعمال هذه المفاهيم الخاطئة) لا في الموضوع فقط ولا في الشكل فقط أو في أي عنصر من العناصر على حدة. ولا أستبعد أن تكون الهوية التي يدافع عنها الراوي، في "روائح المدينة" ويتمسك بها كثير من أبناء المدينة إظهاراً لفضلهم المجحود قد أسهمت في إكساب هذه الرواية نكهتها الخاصة. فالعولمة التي قوبلت، في بداياتها، بالتفاؤل كشفت عن وجه للهيمنة بشع. كان ذلك من بين الأسباب التي أذكت الشعور الحاد بالهويات حتى طفا التعصب من جديد وازداد العداء بين الطوائف والقوميات قوة وعدوانا. أرى الإحساس بالهوية أمراً مشروعاً بل إيجابياً ما بقي في حدود الحفاظ على التنوع دون الانتقال إلى بحث متعجرف عن الهيمنة. الهيمنة والسيطرة وما إليها من تسلط وطغيان هي التي تحمل الهويات على التناحر، فكل هوية تخشى من أن يلحقها التهميش إذا ما أصبحت أقلية.
نوري ڤانة: كيف تقبّلت اهتمام الإعلام والنّقاد بك خاصّة بعد نشر روايتك الثّانية "سعادته... السيّد الوزير" وترشيحك ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرّواية؟ لماذا تأخّر أو بماذا تفسّر قلّة الاهتمام بتجربتك النّقديّة الرّائدة مقارنة بتجربتك الرّوائيّة؟
حسين الواد: المشكل بالنسبة إلى دراساتي الأكاديمية قد يكمُن في التوزيع، فالعملان اللذان صدرا لي في بيروت، مثلا، لقيا رواجاً واسعاً. أما التي نشرت في تونس فظلت في حدود البلاد التونسية الضيقة. وثمة، في تقديري، أمر آخر يبدو لي راجعاً إلى أنني حاولت الجمع بين "المناهج والنظريات النقدية الحديثة" و"الأدب القديم" مولياً التنظير للكائن الأدبي اهتماماً. والقارئ، في البلاد العربية، قد تعوّد على التماس المعرفة النظرية من المؤلفات الغربية المترجمة والمبسطة لها دون ما يكتب بالعربية. ودراساتي الأكاديمية تتخذ موقفاً نقدياً من معظم ما يعتبر "موضة حداثية". وفي هذا السياق النقدي تنكبتُ الأخذ بالإيديولوجية والحال أن سوقها رائجة جداً في الكتابات العربية. كان البحث الذي أجريته على "تلقي القدامى لشعر المتنبي" هو الذي أوصلني إلى أن الشعر فوق الإيديولوجيات وأن الشيوخ الذين شرحوا شعر أبي الطيب كانوا يدركون ذلك وإلا فكيف نفسّر أن الشرح الذي وضعه عالم سني يكاد يتفق مع الشرح الذي وضعه عالم شيعي أو عقلاني؟ كأن شارح الشعر يلقي بمعتقده جانباً عند الإقبال على التعامل مع الشعر. كان قد أوصلهم إلى هذا الموقف انطلاقهم عملياً من أن الشعر يختلف، من ناحية، عن "الكلام العادي" في تكوّنه ويختلف عنه، من ناحية ثانية، في علاقته بالموجود، فهو لا يصوّره في حدود ذاته وإنما يتناهى بالصفات التي ينسبها إليه. وهذا قريب جداً مما يلتمسه التنظير الآن للكائن الأدبي. أضيف إلى هذا كله أن قراءة هذه الدراسات تحتاج إلى شيء من التركيز لم يتعوّد عليه القارئ العربي.
أما العملان السرديان فقد تكتمنا على الأول (روائح المدينة) طوال الأشهر الفاصلة بين نشره وسقوط نظام ابن علي. كان التخوّف من ردود فعل السلطة لا يشجع على شهره. وعندما زال ذلك النظام فوجئت بحصوله على الكومار الذهبي فقد كنت خالي الذهن من ذلك تماماً. لم أستغرب أن يلفت الأنظار مثلما كان قد لفت نظري إليه. كانت المقالات التي كُتبت عنه باللسانين العربي والفرنسي جيدة فعلاً تشهد بنباهة في الفهم مفاجئة. ومع ذلك فقد لقيت الرواية شيئاً من المقاطعة. قاطعتها، مثلاً، بعض الأطياف السياسية، فهي لا تجامل ولا تخدم طيفاً من الطوائف السياسية أو الإيديولوجية ولا تترك شيئاً لم تتناوله بالنقد. وقد لاحظ لي بعض القراء أن "روائح المدينة" خاصة بالمثقفين. أما رواية "سعادته...السيد الوزير" فما كنت أتوقع أن تروج خارج تونس فهي، في نظري وقياساً على الروائح، للقراءة العادية الممتعة بخفة روح السيد الوزير وطرافة شخصيته رغم البشاعة الطاغية عليه.
نوري ڤانة: "سعادته" تفضح سياسة الخصخصة التّي اتّبعها نظام بن علي منذ التسعينات كما فضحت "روائح المدينة" كلّ التجارب السّياسيّة والاقتصاديّة الفاشلة منذ الاستقلال. هل ترى أنّ "سعادته" تواصل المشروع النّقدي الذّي أسّسته في "الرّوائح" أم تعتبر أنّها وكما يعتقد بعض النّقاد رواية سياسيّة بالأساس؟
حسين الواد: استعمل الداعون إلى الخصخصة، إجمالاً وعلى سبيل التبسيط، حججاً منها أن الحكومات لم تعد قادرة على إنجاز ما هي مطالبة بالقيام به عندما كانت تدّعي أنها "راعية" للجميع، وأن القطاع العام وحده لم يعد فعّالاً في تحريك الآلة الاقتصادية. الحل، بالنسبة إليهم، يكمن في التخفيف من الأعباء التي تثقل كاهل الدولة وفي تنشيط الاقتصاد بالخصخصة. وعلى افتراض أن هذا التشخيص ليس خاطئاً وأن الحل المستنبط منه ليس خاطئاً أيضاً، فإن استعماله قد أدى إلى استشراء الفساد. فالتفويت في القطاع العام قد استبدت به عقلية الغنيمة والفوز بالمال العام، والضغط على التشغيل قد ألقى حشوداً من حملة الشهادات في البطالة (وهم الذين كانوا في طليعة التحركات التي انتهت بتقويض نظام ابن علي) والقطاع الخاص نفسه أصبح جاهزاً للنهب السافر والسلب.
نظرياً يمكن أن نعدّ التخفيف من الأعباء التي تثقل كاهل الدولة تطويراً لمفهومها يحدّ من كليانيتها، غير أن الواقع إنما يكشف عن أن البلدان التي هي، مثل تونس، مفتقرة إلى كل شيء تقريباً، تظل في حاجة إلى دولة تسهر، على الأقل، على تشييد ما يصطلح عليه بالبنية التحتية. من هنا تبدو لي التضحية بالقطاع العام (عن طريق التفريط فيه مراكنة وغبناً) نوعاً من الخرق والغباء متى لم يكن مقصوداً. يبدو لي أننا ما زلنا في عهد الدولة "الجابية" (من الجباية بالمفهوم القديم) لم ندخل بعد عهد الدولة المنمية فما بالك بالدولة "الحَكم". ومع أن هذه الثيمات كانت حاضرة في رواية "الروائح" فإن المشكل فيها أكبر من انحصاره في الشأن السياسي. أما "سعادته..." فهو مجرّد عيّنة للتمثيل. فأفضل ما تفتقت عنه عبقرية الوزير في تنفيذ القرارات المملاة عليه لتوفير المال لخزينة الدولة هو بيع البلد كله.
الحقيقة أني لا أعرف ما إذا كان يستقيم أن تُعتبر "سعادته..." رواية سياسية. تسعة أعشار الوزراء في البلاد العربية لا يفقهون من السياسة شيئاً. إنهم خدم حكومات لا أكثر ولا أقل. مجرد أدوات للتنفيذ. ليس لأي منهم، منذ أصبح الرؤساء يعتقدون أنهم قادة ملهمون وزعماء أفذاذ، أن يتحرك خارج نطاق العبارة الشعبية الشهيرة "دبّر يا وزير لا رأسك يطير". أما القرارات فتأتي معلبة بعد نفاد صلاحها للاستعمال في كثير من الأحيان.
نوري ڤانة: لماذا اخترت أن تكون الشخصيّة الرئيسيّة في "سعادته" معلّماً؟ هل أصبح الذّي كاد أن يكون رسولاً عنواناً لاستفحال منظومة فساد فاحت روائحها بين جميع مركّبات المجتمع التّونسي؟
حسين الواد: كانت شخصية المعلم النمطية تجسم قيم النبالة والتفاني في خدمة الوطن بالاضطلاع بتربية الناشئة. واستمر تطويقها بكثير من التقدير إلى أن شرعت دولة بورقيبة في امتهانها بداية من السبعينات. أما دولة ابن علي فقد أحالت كثيراً من المعلمين إلى "التسوّل" بواسطة "الدروس الخصوصية". فإذا كانت منظومة الفساد قد طالت، تحت الضغط المادي وتردّي الرواتب طائفة ليست بالقليلة من عموم المعلمين فإن أكثرهم ما زالوا يتحلون بتلك القيم الإيجابية.
وبالنسبة إلى اختياري الوزير من هذا الصنف فقد رأيت أن شخصيته تصلح أكثر من غيرها لهذا المنصب. لو كان السيد الوزير ينتمي إلى قطاع مهني آخر ما كان لتعيينه في هذا المنصب مثل ذلك الدور الذي قام به في هذه الرواية. فالحكومات الفاسدة تبحث دائماً عن الشخصيات النظيفة نظافة نسبية لتستر بها عوراتها. ثم إن الوزارة التي استحدثت للسيد الوزير لا يصلح لقذارة ما ينتظر منها إلا رجل ينتمي إلى قطاع ما زال يحظى، لدى الرأي العام، بكثير من التقدير. هذا فضلاً عن أن شخصية المعلم توفر ما لا يوفره غيرها من قدرة على التعبير عن حدّة التمزق بين القيم المتأصلة فيه، وإن كان قبل أن يصبح وزيراً قد تخفّف قليلاً، تحت ضغط الواقع، من شدة وطأتها عليه، ونقيضها المتدهور الذي أصبحت تحتمه عليه وظيفته الجديدة. حرصت على اختيار شخصية تتسم بشيء من الدينامية حتى تراوح بالتبرير الكشف عن توترها بين أصيل القيم ومتهافتها. ولعل هذا ما يجعل القارئ لا يستطيع أن يكره هذه الشخصية كل الكره، فهو، في آخر الأمر يستلطفها ويتعاطف معها ويرثي لحالها. لا أعتقد أن القطاعات الأخرى تصلح لتبيين فداحة الخسارة التي لحقت هذه الشخصية.
نوري ڤانة: لغة الرّوايتين تتّسم بمزج رهيب أو ربّما مراوحة مقصودة بين اللّغة الأدبيّة (لغة القاموس) واللّغة العاميّة التونسيّة (لغة الشّارع) مع استعمال الحواشي لتفسير بعض المفردات أو العبارات التّي يصعب على القارئ (غير التّونسي) فهمها؟ ماهي الخلفيّة الفكريّة أو النقديّة وراء هذا التّمشي اللّغوي المميّز؟
حسين الواد: عندما نقرأ أمهات الكتب التي أسست النثر العربي نفطن إلى أنها تجمع بين اليسر وطواعية الجملة والاقتراب من اللغة المنطوقة واللغة الشعرية. السجلات اللغوية فيها متعددة ومتنوعة بتنوع المقامات. أشير مثلاً إلى كتابات الجاحظ والأصفهاني والتوحيدي وكتب التاريخ وتراجم الأعلام والمناقب وغيرها مما هو شبيه بها كثير وكثير جداً. وفي رواية "روائح المدينة" مقامات (بمعنى السياقات) متنوعة. تنوّع المقامات يتطلب تنوعاً في العبارة أو الأسلوب وهو ما حافظت عليه اللغة في هذه الرواية. ومن ناحية ثانية تظهر اللغة فاعلاً قوياً في نحت هذا العالم المتحرك فالألفاظ تكتسب دلالاتها من النصوص التي تأتي بعدها فهي التي تتولى تفسيرها. أما الألفاظ المشروحة في الحواشي فهي مما قد يُشْكِلُ على غير القارئ التونسي.
نوري ڤانة: تطغى على ثنايا البنية السرديّة للرّوايتين مسحة من السّخرية والرّوح الهزليّة عامّة؟ هل للسخّرية هنا بعد سرديّ علاوة على البعد النّقدي؟ هل الكتابة امتاع ومؤانسة أوّلا وبالذّات؟
حسين الواد: الأدب العربي القديم زاخر بالسخرية ينتزع من قارئه الضحك انتزاعاً، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يستقصيها تعداد. بل إن الضحك قد لازم نشأة النثر الفني فابن المقفع يتحدث في مقدمة " كليلة ودمنة" عن "اللهو"، والجاحظ يمتدح "الضحك" والتوحيدي يضع "المُلح" وفي التراث مؤلفات عديدة في الظرف والظرفاء ونوادر الحمقى والنوكى والمغفلين. أما أدبنا الحديث فيغرق في النواح ويعبس، في الغالب، جاداً متشنجاً. ثم إن الهزل أو "الضحك" خاصية بشرية إذا افترضنا أن الحيوان لا يضحك. وهو قرين الفكر. إنه يتطلب مسافة فاصلة بين الحدث سواء أكان فعلاً أم قولاً ومن يشاهده أو يتلقاه أو يقوم به. نحن نضحك من المفارقة ومن الغباء والحمق ومن توقد الذكاء أيضا بل نضحك من أنفسنا مثلما نضحك من الآخر.
أما الإمتاع فهو أنواع منه ما هو فكري وما هو بلاغي أو جمالي. والرواية، أولاً وبالذات، فن ذو خصوصيات وتقنيات جمالية دقيقة. ومما خبرته من معاشرتي الطويلة لكثير من الكتابات استقر لدي أن الكتاب الذي لا يحدث في قارئه متعة من المتع الكثيرة والمتنوعة لا يستحق القراءة.
نوري ڤانة: ما شدّ انتباهي في الرّوايتين أنّ سعي الراوي للدّفاع عن مدينته ينتهي به الى كشف عوراتها مثلما ينتهي الحال بالمعلّم-الوزير الى فضح تورّطه في منظومة الفساد التّي يتبرّأ منها. هل أردت أن تجسّد لنا هنا نظرتك للمثقّف على أنّه مورّط ولو جزئيّاً في البنية المجتمعيّة والاقتصاديّة الليبيراليّة التّي يثور ضدّها؟ هل مسؤوليّة المثقّف تبدأ اذن بتحديد مدى تورّطه فيما يصبو لرفضه؟ كيف ترى وضع المثقّف العربي اليوم وهل تقلّص دوره أم أصبح إيديولوجيّاً وسياسويّاً أكثر من اللّزوم؟
حسين الواد: في رواية "روائح المدينة" يريد الراوي (وهو غير المؤلف) أن يشيد بما يجحده الجيران من فضائل مدينته فيعقد العزم على الدفاع عنها لإظهار الروائح العطرة التي تعبق بها، لكنه بدأ باستبعاد الروائح التي لا تخدمه في مشروعه حتى إذا شرع في ما كان قد عزم عليه لقي مصرعه. تبدو هذه البنية متناغمة مع الفشل وهو معنى ضارب في الكتاب، فالأفعال الإيجابية تظل مجزومة فيه. جميع فصول الرواية تبدأ بـ"أنا لا أتحدث عن...". والحديث عن الروائح المستبعدة هو الذي أسلم الراوي إلى الدفاع عن أهل مدينته، فما لحقهم من أذى قد تسببت فيه حكومات "البايات" و"الاستعمار والحماية" و"الاستقلال والسيادة" و"العهد الجديد". أهل المدينة ضحايا إذن. غير أنه لا يكفي أن نصنّف المنكوب في خانة الضحية حتى يكون بريئاً تماماً مما لحقه من ألوان الأذى. فبأهل المدينة، في حالات اللامبالاة والمقاومة والتصديق بالوعود والاستسلام والوقوع في السذاجة والغفلة وافتراس بعضهم لبعض، من الوهن ما دفع بهم إلى أن يكونوا وضع الضحية. من هنا كان الغضب لأهل المدينة غضباً عليهم. اضطلع بذلك المؤرخ الحزين فهو الضمير الذي يعي، وعياً شقياً، بما يدبر لهم أو يجنون به على أنفسهم ويحذرهم منه.
المؤرخ الحزين هو الذي يجسم دور المثقف. لكن هذا الدور يختلف عما اعتدنا عليه من التزام فوقي بنصرة القضايا العادلة وانحياز للمضطهدين والمظلومين بتنويرهم أو قيادتهم. فالقيمة الوحيدة التي ينصرها هي الحرية. وباسمها يعترض على الحمق والغباء والنفاق والرداءة ويشهر بالهيمنة والاضطهاد وبما تتخذه الحكومات من قرارات خرقاء. وهو دائماً إلى جانب الذين "لا يسندهم إلا الجدار". لهذا كان منبوذاً من القائمين في السلطة والساعين إليها. بل إنه منبوذ أيضا من الذين يأتي دفاعه عن الحرية في صالحهم.
أما في "سعادته..." فالوزير يدافع عن نفسه ويبرر ويفسر ويحلل وينقد ويشهّر التماساً لشيء من العذر يحفظ به كرامته. وقد لاحظتُ أن قراءات المرافعة التي كتبها تميل، في معظمها، إلى تصديقه رغم أن في الرواية ذاتها (في أحد التعاليق الأمنية على الدفتر الذي حفظت فيه المخطوطة) ما يدعو إلى الشك في ذلك. فالأفعال التي اعترف باقترافها لعلها كانت ستاراً يخفي وراءه ما اقترف ولم يذكر. للاعتراف جاذبيته ولكنه كثيراً ما يُستعمل لأغراض أخرى. كان الوزير مورطاً في خدمة الدولة وعندما جعلت منه "كبش فداء" وضحّت به انقلب عليها على سنة "عليَّ وعلى أعدائي". فهو إذن ينافح عن ذاته متعلقاً بخيط واهٍ من خيوط النجاة.
إذن المثقف الحقيقي هو المؤرخ الحزين، فهو لا يطلب شيئاً لنفسه ولا ينتظر جزاء بل يكتفي بالجهر بما يراه صواباً ناعياً على الناس ما يراه خطأ أو خديعة أو تمويهاً وختلاً ومغالطة. وهو لا يحمل الناس على تبني أفكاره حملاً وإنما يكتفي بإظهارها. وإذا تصرّف بمقتضاها فإنه يتصرّف مواطناً من المواطنين فما يحصل في المدينة يعنيه مثلما يعنيهم.
يبدو لي معظم المثقفين العرب لا ينطبق عليهم، اليوم، مثل هذا المفهوم، فهم ينعتونه بالمثالية أو الطوباوية ويبخسون أنفسهم بالتزاحم على أبواب الحكام أو يتعاملون مع الثقافة بالمنطق التي تشتغل به "المقاولات". وبطبيعة الحال فقد أثر هذا كله في منزلتهم.
نوري ڤانة: يفرّق طه حسين بين نوعين من الأدب "أدب الثّورة" ذلك الّذي ينشأ بعد قيام الثّورة و"الأدب الثّائر" ذلك الذّي يؤسّس للثورة ولو بصفة غير معلنة. هل تؤيّد هذا التقسيم؟
حسين الواد: تمييز طه حسين بين هذين الأدبين إجراء منهجي لا غير. احترازي يتجه إلى الطريقة التي عولجت بها العلاقة "أدب - ثورة". فمع أنه يمكن للأدباء أن يجعلوا من الثورة موضوعاً يطرقونه بالتغني والإشادة أو الاستيحاش والإزراء أو السرد الفني دعاية لها أو تنفيراً منها، مع هذا كله ومع ما لاحظته من أن الدراسات اتجهت، أكثر ما اتجهت، إلى كل من صورة الثورة في الأدب ودوره في قيام الثورات، علماً وأن لفظة " ثورة" قد أصبحت كجراب الأعمى تتسع لأي شيء، أرى للمسألة وجهاً آخر لم يلق حظا وافرا من البحث.
أرى أولاً أننا بحاجة إلى الاحتراز من إرسال الكلام على عواهنه عندما نتحدث عن "تغيير الأدب للواقع". لاحظت أنك تأخذ بهذا الاحتراز في قولك "ولو بصفة غير معلنة".
الحقيقة التي يجب ألاّ ننزعج منها أن " قدرة" الأدب على التغيير ضئيلة جداً، فهي في الحيّز الذي يجعلها لا تذكر. بل إن التضخيم من دور الأدب في التغيير ليس سوى معنى شعري غنائي. فالذي يغير الواقع، تغييراً ملموساً وسريعاً، هو الاكتشافات العلمية التي يتم تطبيقها والإنجازات الاقتصادية والحراك الاجتماعي. غير أن تضخيم دور الأدب في الحراك الاجتماعي ينطوي على مغالطة كبيرة. جاءت هذه المغالطة من الاعتقاد في أن الأدب يقتصر على حمل رسائل مفهومية ومعارف يغرسها في الناس ويحملهم على اعتقادها، شأنه في ذلك شأن ما تقوم به سائر الأقاويل المكتوبة والمنطوقة والمرئية. هذا الدور الضئيل جداً، وهو دور يشترك فيه الأدب مع غيره من النشاطات البشرية، قد ضُخّم إلى حد كبير حتى صرنا نعتقد أنه فعّال وصارت النظم المستبدة، وكم هي في هذا غبية، تضرب عليه نطاقاً من الرقابة ذات مراجع متعددة.
هل للأدب وظائف؟ الجواب نعم. لكن ينبغي أن نميز بين الوظائف التي يشترك في النهوض بها مع نشاطات بشرية أخرى والوظائف الخاصة به، بمعنى التي لا يشاركه فيها أي نشاط بشري آخر. أما الوظائف التي يشترك في النهوض بها مع سواه فهي الوظيفة المعرفية والوظيفة الفنية (ما يصطلح عليه بالإفادة والإمتاع). وأما الخاصة به فهي تكمن وراء الوظيفتين المعروفتين له مجسمتين في الممتع والمفيد. إنها، أعني الوظيفة التي لا ينهض بها أيّ نشاط بشري سواه، تكمن، إلى جانب المحاورة للنظام اللغوي الرمزي، في الحفاظ على احتمالات وإمكانات أخرى غير ما دخل في التجريب والاختبار سواء حظي بالسيادة أو بقي في نطاق الطلب لها.
الأدب لا يقيّم بالصواب والخطأ والنفع والمضرة أو الصلاح والفساد. القاسم المشترك بين الشاعر والثائر مثلاً أن كلاهما يحلم ببديل للوجود ويرغب فيه. لكنهما سرعان ما يفترقان في أن الثائر يسعى إلى اشتقاق نظام ممّا حلم به لإرسائه وحمل الناس كرهاً أو طواعية عليه، بينما يواصل الشاعر تصوّره لعوالم أخرى لا يسعى إلى فرضها على أحد وإنما يبقي عليها إمكانات واحتمالات قد تجد طريقها إلى التحقيق وقد لا تجده أبداً. المهمّ بالنسبة إلى الشعر أن يكون لهذه الاحتمالات والإمكانات حظها من الوجود في الأذهان.
نوري ڤانة: هل يمكن التّنظير أو التّأريخ لأدب ثائر أو ثوري تونسي يبتدئ مع الشّابي ويتواصل مع حسين الواد؟ من حسب رأيك من الأدباء التونسيين يمكن أن نعتبر تجربته تواصلاً للمدّ النّقدي الثّوري الذّي انطلق مع الشّابي؟
حسين الواد: يُمكن أن يفسّر مفهوم الثّوريّة هنا بطرق مختلفة لا تقتصر على البعد السّياسي بل تشمل ما هو اجتماعي أو ثقافي كالخروج عن المألوف أو التّناطح مع القديم شكلاً أو معنى. في شعر الشابي محوران أحدهما رومانسي والثاني وطني. وكانت برامج التعليم قد اهتمت منه، عن قصد، بالجانب الرومانسي حتى أصبح غير المطلعين على ديوانه لا يعرفون له إلا ذلك الجانب الأول. وعندما احتاجت الهزة التي أطاحت بنظام ابن علي إلى لسان يترجم عن حالها عثرت عليه في الجانب الوطني من شعر الشابي فلهجت به في المظاهرات والاعتصامات والتجمعات. وهذا يرجعنا إلى الفكرة التي عبرتُ عنها أعلاه في قولي إن الشعر طاقة كامنة في قصائده تأخذ منها الشعوب ما تحتاج إليه دون أن ينقص ذلك الأخذ منه شيئاً أو يأتي عليه. الأدب كنز لا يُرى كاملاً ولا ينفد وأهل ثقافته يأخذون منه ما يصرّفونه في حياتهم. يمكن للشعوب أن تأخذ منه المعرفة ويمكن لها أن تأخذ منه المتعة وهو يجود عليها بما تطلبه بسخاء، لكن فعله الأجل فيها، وهو الفعل الذي لا تشعر به، هو تحويره للنظام اللغوي الرمزي (أي أداة الوعي والإدراك) وحفاظه على احتمالات وإمكانات أخرى لم تحصلها البشرية بالاختبار والتجريب.
نوري ڤانة: ما رأيك في ما يمكن تصنيفه أدب الثّورة؟ هل هناك من الكتّاب من شدّ انتباهك بعد الثورة؟
حسين الواد: التصنيف عمل علمي معرفي، فهو يقوم على الاهتداء إلى الفروق والاختلافات بين الأشياء والظواهر وجمع التي تشترك منها في بعض الصفات القارة في صنف واحد نضع له اسماً اصطلاحياً يدل عليه. وأدب الثورة ما هو؟ إذا كان المقصود به هو الأعمال التي تتخذ من الفعل الثوري موضوعاً ففي جميع الآداب أعمال تتفق في ذلك. أما إذا كان المقصود شيئاً آخر فلا أعرف السّمات التي يمكن أن تجتمع في أعمال أدبية معينة حتى يستقيم تصنيفها في خانة "أدب الثورة".
ما اطلعت عليه من كتابات متصلة بالوقائع التي حصلت في بلدان من العالم العربي لم تشد انتباهي على نحو لافت. قد يعود ذلك إلى أن تحويل الكلام عن تلك الوقائع إلى أعمال فنية يحتاج إلى وقت. الكتابة الفنية ليست سرداً للوقائع الحاصلة أو مفهمة لها، يمكن للمقال والبحث التأريخي أن يضطلعا بذلك، أما الفن فشيء آخر.
نوري ڤانة: يقول محمود درويش: "الالتزام هو الإحساس الحرّ بطريقةِ التعبير الحّرةِ عن مسؤوليّةِ الحرّ". ما هو موقفك من قضّية الالتزام في الأدب؟ هل انتهى زمن الالتزام أدبيّاً بالقضايا المفصلّية التّي كانت ولا زالت تؤرق العالم العربي منذ القرن التّاسع عشر؟
حسين الواد: مفهوم الالتزام لم يعد، في هذا الزمان، صالحاً للمثقف عامة وللأديب خاصة. كان ذلك في الفترات التي كان الناس يعتقدون في الحقائق الثابتة وفي إمكان فرضها على الناس بالقوة تارة وبالدهاء والخديعة تارة أخرى (ما زال هذا الاعتقاد قائماً في البلاد العربية). والكتابة التي تخدم قضية أو مذهباً أو اتجاهاً أو عقيدة إنما تبخس، في الحقيقة، نفسها وتحيد عن المطلوب منها. أرى أنه يحسن بنا أن نميّز، في الشخص الواحد، بين الأديب أو المثقف عامة والمواطن التاريخي. يمكن للمواطن من حيث هو مواطن أن يلتزم ويتنظم ويتحرك سياسياً فيكون في هذا كسائر المواطنين. أما في عمله من حيث هو مثقف فهو كائن آخر مطالب بأشياء أخرى تنسجم مع ما تنتظره المجموعة من المثقف والأديب. وعلى هذا فإذا كانت المجموعة تنتظر من المثقف ما تنتظره من السياسي أو أي ملتزم بإيديولوجية من الإيديولوجيات أو عقيدة من العقائد لم تكن بها حاجة إليه أو كان شيئاً مكرراً لسواه.
المثقف اليوم لا التزامَ له إلا بالتعبير عمّا يراه الآن وهنا صواباً أو حقاً حتى وإن كان ضد مصالحه الفردية وضد الفئة أو الطائفة أو الإيديولوجية التي ينتمي لها من حيث هو مواطن. بل هو لا يستعمل في التعبير طرق الترغيب والترهيب وإنما يكتفي بعرض وجهة نظره. ففي هذا احترام لعقول المتلقين فهم الذين يختارون مما يعرض عليهم ما يرونه صواباً أو صالحاً. وهذا يقترب كثيراً مع التعريف الذي صاغه درويش. يبقى أن أشير إلى فرق، في البلاد العربية، بين الحرية مفهوماً والحرية مفهوماً يعتقد. ما زال مفهوم الحرية بعيداً عن ترجمته إلى مواقف.
بطبيعة الحال ستُرمى هذه الفكرة، على سبيل الاستهجان والاستنقاص، بالطوباوية أو المثالية أو بأنها تهويم شعري، وهذا موقف منها غير ثقافي. المثقف ضد الهيمنة وضد الرأي الواحد والفكرة الواحدة وإذا تخلى عن ذلك أصبح أي شيء آخر مما لا ينطبق عليه المفهوم الذي يطلق عليه.
نوري ڤانة: يُمكن التّعامل مع الفساد بالقانون ولكن كيف يمكن لنا أن نتعامل مع ثقافة الفساد التّي كانت ولا زالت تشرّع للعلاقات الاجتماعيّة؟ زد على ذلك نموّ وتفشّي ثقافات قديمة- جديدة كالمطلبيّة المجحفة والأنانية القصوى أو النرجسيّات الجهويّة والقبليّة والطّبقيّة والطّائفيّة والسلفيّة...
حسين الواد: مصطلح الفساد يحتاج إلى توضيح، وأفهم منه جميع ما يُلحق ضرراً وأذى بالآخر بما في ذلك البيئة والوسط ويوفـّر كسباً غير مشروع. وثقافة الفساد هي الثقافة التي تخدم، من قريب أو من بعيد، حصول الأذى والضرر والكسب غير المشروع. ومفتاح ذلك التسلط والاستعباد. وثقافة الفساد تبدأ بترويج أفكار بسيطة من قبيل أن الجماعات البشرية في حاجة إلى قائد ثم إلى دولة وإلى جهاز أمني يدفع عدواناً، يعدّ غريزياً، في الناس بعضهم على بعض. وقد استبدت هذه المنظومة الفكرية بالأذهان حتى حجبت سواها. وعن هذا الأصل تفرعت شعب ونمت حتى كوّنت نظاماً رمزياً ومعرفياً أصبح يضغط على الجميع. يمكن على سبيل المثال، في الاستدلال على المهمل والمستبعد والذي قلما يخطر على الأذهان، منع المعتدي عن إتيان عدوانه.
أناس كثيرون، وخاصة من المثقفين، كانوا يعتقدون أنه يكفي أن ننعم بخيرات الحضارة الحديثة حتى نكون حداثيين أو من أبناء هذا الزمان، بمعنى القطع مع ثقافة الماضي البعيد وماضي القرون الوسطى على وجه الخصوص. يكفي أن تنعم بالماء الجاري في قنوات والكهرباء والسيارة والطائرة حتى تصبح من أبناء هذا الزمان. لكن تغيّر الوسط لا يستوجب، ضرورة، تغير العقليات أو "الثقافة" عموماً.
وحتى ينكشف ثقل الموروث الثقافي وشدة وطأته على حياة الناس أذكرك بالشخص الذي، في "روائح المدينة" تزوج مطلقة وأشاع أنه وجدها عذراء. وعندما جعل أقرباء الذي كانت تلك المرأة في عصمته يعنفونه ردّاً على إهانته لهم قال معتذراً:"ما ذنبي إذا كنت كل ليلة أجدها عذراء". لهذه الفكرة حضور قويّ في الثقافة العربية فهي في تواريخ الملوك والأمراء وفي أخبار الحمقى والمغفلين. ففي أخبار الملوك مثلاً نجدها في جارية تسلب الحاكم لبّه حتى صرفه عن تدبير شؤون دولته، فيأمر بقتلها، ويتوقع الذي أمِر بقتلها أن الملك سيندم فيتريث في تنفيذ الأمر، وتنتهي الخرافة بقتل تلك الجارية فهي دائماً تصرف الملك عن السهر على مملكته. الذي يستوقف في صفات تلك الجارية أن الملك يجدها كل ليلة عذراء. هذا يعني أن احتفال المؤرخين والرواة بذكر هذه الخرافة إنما يعود إلى ولع الثقافة العربية بـ"المرأة البكر" و"الفكرة البكر" و"الضربة البكر" حتى أن حوريات الجنة يصوّرن لا على أنهن أبكار عذراوات فحسب بل إن التي تفترع منهن تعود إليها عذريتها وأن أحد المؤلفين سمّى كتاباً له "أبكار الأفكار". أما انعكاس هذه الفكرة على المجتمع فيتمثل في أن قيمة البكر أرفع من قيمة الثيّب وأن المرأة تصبح مجرد سلعة. وممّا ذكر من انعكاس هذه الفكرة في "روائح المدينة" أن أهلها يحرصون على التنصيص في عقد النكاح على أن العروس "بكر عذراء" وأن مصحات "الترقيع"، عندما توفر الحل الصناعي، قد انتشرت فيها . بل إن انعكاسها على المجتمع قد وصل إلى حدّ أن العريس، عندما يتبيّن، ليلة الدخلة، أن عروسه ليست "بكراً عذراء" يخرج فينقلب الفرح إلى مأتم وتنشب معارك بين أهل العروسين تزهق فيها، أحياناً، الأرواح. نحن، في الحقيقة، سجناء الثقافة التي نحمل، وفعلها فينا أكبر بكثير مما يدخل في الأفهام.
على هذه العينة يمكن أن نفهم الثقل الذي تضغط به الثقافة على حامليها. فمع أنها صنع بشري فإنها سرعان ما تصبح، عندما تتحول إلى عقائد، حملاً ثقيلاً على صانعيها وقيوداً تكبلهم. ليس من السهل تغيير العقائد إذا ما رسخت في حامليها. فكثيراً ما تصبح مكيفة للسلوك يقيس بها كل ما يفكر أو يأتي. أجدني، كلما فكرت في الثقافات، ميّالاً إلى الاعتقاد في أن لكثير من الثوابت التي توّجت فيها عقائد أصولاً وقائعية أسطرت وضاعت فبقيت مجازاتها. والمجاز أبلغ أثراً من الحقيقة.
أما محاربة ثقافة الفساد فيمكن أن تتم، من بين ما تتم به، في كشفها وفضحها ونسفها بالوعي بها بشعة وبالغة الضرر بكل من المستفيد والمتضرر. القمعُ يُقاوم بأن يضاف إليه وعي القمع ويقاوم الفساد بأن يضاف إليه الوعي به. والأداة السحرية لذلك هو "التعليم"، فالمغامرة البشرية في الوجود أراها في كسب المعارك ضد الخرافات التي احتمت بها لضمان البقاء والاستمرار. ولست أعتقد أن الخرافة في عصرنا العلمي هذا أقل حضوراً وفعالية منها في عصور الظلمات. وهذا يُعبّر عنه بالصورة المبتذلة التي تعدّ إنسان اليوم عملاقاً، بالصناعة والتقنيات، وضامر الوجدان والضمير إلى حدّ انعدامهما فيه.
أما المجتمع العربي فهو، في تقديري، لم يدخل بَعدُ إلى مرحلة الحياة المدنية. يكفي أن نرى مكتوباً على وسائل النقل المتواضعة والراقية، عندنا، عبارات من قبيل "هذا من فضل ربّي" أو " باسم الله مجراها ومرساها" أو أن ترسم على بعض المباني الخاصة الفخمة "خُمْسة" أو "ذيل سمكة" حتى ندرك أن المواطن العربي يعيش بجسمه في الحاضر وبعقله في القرون الوسطى. ما زال العقل فينا مشوّشاً ينتمي إلى العصور السحرية. والمتعلقون بتلك الثقافة المسرفة في القدم باسم الهوية يعتقدون أنها صالحة لكل زمان ومكان. وعلى أية حال فاستعمال العقل، لدى الغالبية الغالبة من الناس، أصعب من إلغائه للارتياح إلى ما يقرره نيابة عنهم المفكرون.
نوري ڤانة: عموماً كيف ترى تونس منذ الثّورة؟ هل الخلاص من الوصاية الأجنبيّة والهيمنة النيوليبراليّة كان ممكناً أم صار مستحيلاً أم ماذا؟
حسين الواد: تونس اليوم مِرْجل كبير مملوء بكثير من المتناقضات في حالة غليان. لا أعتقد أنه بإمكان أي كان أن يتكهن بما سيحدث فيها في قريب الآجال ومتوسطها. الهبّة الشعبية التي فاجأت الجميع والسهولة والسرعة التي سقط بها النظام الحاكم والهروب الغامض الذي قام به ابن علي والقرارات المرتجلة التي تلت انهيار السلطة وصعود الإسلاميين للحكم ودخول أصحاب النفوذ إلى أجهزة الدولة بعقلية اقتسام الغنائم ...و...و، كل هذا يدل على أن الحدث الذي أنهى ما كان يُعرف بـ "العهد الجديد" كان أعلى من عقول المتحركين سياسياً على مسافة بعيدة دونه. السيناريوهات المحتملة الآن كثيرة لكنها لا توافق أحداً، لذا طال الوضع الانتقالي ولا أستبعد أن يطول في الصيغة التي هو عليها أو صيغ محوّرة منها تحويراً جزئياً. كل يبدو مرتاحاً، رغم التذمر الظاهر، إلى ما حصل عليه ويخشى أن يخسره. غير المرتاحين شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى خاصة والدنيا. لكن تعبئتها من جديد أمر صعب التحقيق.
ثمة مكاسب، ما في هذا من شك، كان يمكن الوصول إليها دون "ثورة": حرية التعبير وجميع الطوائف بدأت تضيق بها رغم أنها تستفيد منها فهي تحاول تطويقها، وصعود "المجتمع المدني" وكلّ يريد أن يكون هو المهيمن عليه، والبروز الذي أحرزه تحرّك المرأة فهو يشير إلى شيء من القطع مع مفهومين شنيعين لازماها طويلاً أعني "العهر والخضوع".
هذه المكاسب مهددة لكن لا أتوقع أن يتم التفريط فيها خاصة أنها يمكن أن تتوفر في بعض النظم الاستبدادية. هذا إذا لم تستوجب التوازنات الخارجية الكبرى تكوين بؤرة للعفن مثلما حصل في العراق وأفغانستان، وهو أمر محتمل رغم استبعاد الكثيرين له.
كنت فعلا قد رأيت في الذي حصل في تونس إنذاراً لليبرالية الجديدة وهي أخطر بكثير من الليبرالية التقليدية، فثورة المهمشين والمستبعدين والمنبوذين والمقصيين عن نعم الحضارة تشرّد النوم عن جفون الفاسدين على النطاق العالمي، ولكن يبدو أن خوفهم من العدوى قد زال. الرجّة قد هدأت وبقي ترميم آثارها على النحو الذي يضمن لمخربي العالم وناهبي خيراته بالاستمرار.
نوري ڤانة: كيف ترى وقع الحرّية بعد عقود من العبوديّة؟
حسين الواد: مفهوم الحرية لم يتبلور بعد في مجتمعات كالمجتمع التونسي ولم يصل الناس إلى اعتقاده ركناً قاعدياً من أركان الحياة الفردية والعامة. الموجود هو الرغبة الجامحة في التسلط بالسيف أو السوط أو الخداع والنفاق والمراوغة. لذا فكل يجهر بحبها حتى يعرف الآخرون عنه ذلك وهو في الحقيقة يضحك من انطلاء الحيلة عليهم. أما لدى غير "أيّها الناس" فالحرية تسيب وانفلات وهتك للأعراض واتهامات مجانية وتهارش.
قد يبدو هذا طبيعياً بل متوقعاً بعد طويل إلجام الناس عن الكلام خاصة أن الدولة التي من المفترض أن تطبق القانون لم تعد قادرة على شيء وأن القوانين نفسها قد أصبح مطعوناً فيها، لكن الحرية لا يمكن أن ترادف الفوضى المشاهدة على جميع الأصعدة وفي جميع المستويات. ما يخشى من هذا أنه قد يؤدي إلى جعل الحرية نفسها من المفاهيم الملعونة.
غير أن هذه الظواهر التي أصبح يشتكي منها معظم المواطنين لم تمنع بروز مفاهيم كفيلة، إذا ما مرّت إلى الإنجاز، بإحداث تغيير في الواقع كمفهوم "الأمن الجمهوري" و"حياد الإدارة" و"القضاء المستقل". المفاهيم التي أنتجتها حرية التعبير، رغم تسيبها، مهمّة متى تمّت ترجمتها إلى سلوك يحترمه الجميع أو أقدمت الأجهزة غير القمعية على إمضائها.
ماذا يمثّل البوعزيزي—ذلك البائع المتجوّل الحزين—بالنسبة لك؟ هل ولّى فعلاً زمن الأبطال من عالمنا أم أنّنا نبقى دائماً في حاجة ماسّة للأبطال في الحياة كما في الرّواية؟
ما أقدم عليه البوعزيزي هو القطرة التي أفاضت كأساً كانت طافحة من زمان. قد سبقه آخرون إلى الفعل الذي أقدم عليه لكن جاء ذلك سابقاً لأوانه. وأقدم كثيرون بعده على ما كان قد أقدم عليه دون أن يعطي ذلك شيئاً. إذا كان هذا يعني أن البطولة شيء نسبي فالأكيد أنها صنع اجتماعي التماساً للرمز وهو معنى مؤقت تحتاج إليه الشعوب معالم على الطريق. لذا أرى حاجة الشعوب إلى الرموز أكبر من حاجتها إلى الأبطال. ألا ترى أن الذين احتفظ التاريخ بصفاتهم البطولية كلّ يأخذ من تلك الصفات حسب حاجته ويؤوّلها على النحو الذي يحبّ.
أما في الروايات فالأبطال أقوال وأفعال تحتاج إلى ما يعرف في نحو التراكيب بـ"بالمسند إليه" حتى تكتمل المعاني وتقوم الدلالة. لذا أصبحت الشخصيات الروائية في الدراسات "ذوات" تكتسب شيئاً فشيئاً صفاتها.